[الحسن وتارا وجباجبو ]
الحسن وتارا وجباجبو
رغم أن تصاعد الأزمة السياسية في ساحل العاج لم يكن أمرا مستغربا في ظل عدم استقرار الأوضاع في تلك الدولة الإفريقية منذ حوالي 10 سنوات ، إلا أن الجديد هذه المرة هو مسارعة واشنطن وباريس لتأييد زعيم المعارضة المسلم الفائز بالانتخابات الرئاسية الحسن وتارا ضد حليفهما التقليدي الرئيس لوران جباجبو .
بل واللافت للانتباه أيضا أن فرنسا وهي الدولة التي كانت تستعمر ساحل العاج في السابق بدت متوافقة تماما مع موقف أمريكا رغم الصراع الأوروبى الأمريكى على النفوذ في القارة السمراء ، وهو الأمر الذي ضاعف من الشكوك في هذا الصدد .
ويبدو أن تفسير ما سبق لن يخرج عن الأزمة المالية التي يعيشها الغرب ، وبالنظر إلى أن مهنة المسلمين الأساسية في ساحل العاج هي زراعة الكاكاو وهو المحصول الأساسي الذي جعلها واحدة من أغنى الدول المستقلة حديثاً في غرب إفريقيا ، فإن تهديد وتارا بحرب أهلية جديدة في حال عدم اعتراف جباجبو بنتائج انتخابات الرئاسة وضع فرنسا وأمريكا في مأزق كبير للغاية خشية أن تندلع الحرب مجددا وهو الأمر الذي من شأنه أن يؤثر بشدة على مصالحهما وشركاتهما المستفيدة من زراعة الكاكاو التي تتركز أساسا في شمال ساحل العاج ذي الأغلبية المسلمة .
ولعل ما ضاعف من قلق أمريكا وفرنسا أيضا أن المسلمين باتوا في غضب عارم بسبب الظلم الواقع عليهم والقادم من الجنوب حيث رفاهية النخبة السياسية والتي تخصصت في نهب الفارق بين السعر الدولي للكاكاو والسعر البسيط جدا الذي يدفعونه لمزارعي الكاكاو لدرجة دفعت البعض للقول إن ما يحدث في ساحل العاج حاليا هو ثورة "الظلم ضد الطغيان" أو "ثورة مسلمي كوت ديفوار".
وبجانب ما سبق ، فإن فرنسا وأمريكا وجدتا أيضا في أزمة الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج فرصة مواتية لتوطيد نفوذهما داخل تلك الدولة عبر الوقوف مع الطرف الأقوى ، فواشنطن تسعى بقوة لتطويق واختراق مناطق النفوذ الفرنسي وتحويلها إلى مناطق نفوذ أمريكية .
وبالنظر إلى أن ستين في المائة من رجال الأعمال في ساحل العاج التي تقع في غرب إفريقيا هم فرنسيون ، فإن واشنطن رأت في الأزمة السياسية المتصاعدة فرصة لإجبار هؤلاء على الرحيل خاصة وأنهم مرتبطون في عيون المسلمين بأنهم سبب نهب خيراتهم ، هذا فيما تسوق فرنسا نفسها على أنها مع نتائج الانتخابات التي فاز بها وتارا لإبعاد الشبهة السابقة عنها .
ويبدو أن الأمر لم يقف عند الأطماع الفرنسية والأمريكية ، فهناك تقارير حول نفوذ إسرائيلي متزايد في ساحل العاج كان بدأ في عام 1962 عندما قام 7 ضباط إسرائيليين بالإشراف على إنشاء مستعمرات زراعية في أدغال ساحل العاج ، وبعد ذلك وتحديدا في 1963 ، أسس ضابط إسرائيلي مدرسة عسكرية بساحل العاج وقام بتدريب فرقة من المجندات .
أيضا فإنه بالرغم من أن المسلمين يشكلون أكثر من نصف السكان في ساحل العاج وغالبيتهم من قبائل الماندج والموسى والسنوفو ، إلا أنهم يواجهون هجمة شرسة من البعثات التنصيرية التي تحظى بدعم الرئيس جباجبو الذي ينتمي للجنوب ذي الأغلبية المسيحية.
ورغم أن الجيش أكد دعمه للرئيس جباجبو ضد وتارا ، إلا أن الغرب بدأ يدرك أن نظامه يضعف شيئا فشيئا ، ولذا فإنه أظهر نفسه وكأنه يتعاطف مع المسلمين لكي تواصل البعثات التنصيرية نشاطها بحرية .
وتبقى عدة حقائق بشأن ساحل العاج من أبرزها أنها ليست فقط المنتج الأكبر للكاكاو في العالم وأحد أقوى الاقتصاديات في إفريقيا وإنما تتمتع أيضا بموقع استراتيجيى يجعلها بوابة لغرب إفريقيا إذ يحدها من الغرب "ليبيريا وغينيا" ومن الشمال "مالي وبوركينا فاسو" ومن الشرق "غانا" ومن الجنوب "المحيط الأطلسي" ، كما أنها تمثل بوابة إلى أسواق "الاتحاد الاقتصادي والمالي لإفريقيا الغربية" و"المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا إيكواس".
كما أنه بالنظر إلى أن الغرب يسعى لسرقة أحجار الماس وخامات النحاس والكوبالت واليورانيوم فقد حرص على إشعال حروب أهلية بسببها في ليبيريا وسيراليون والكونغو ورواندا وبوروندي وأنجولا وناميبيا وساحل العاج وسرعان ما لجأ بعد ذلك للتحالف مع الطرف الأقوى في كل دولة على حدة لضمان استمراره في نهب ثروات تلك الدول أو اختراق التكتلات الاقتصادية فيما بينها وهذا ما يحدث حاليا مع ساحل العاج.
دولة برئيسين
[جباجبو وهو يؤدى اليمين الدستورية ]
جباجبو وهو يؤدى اليمين الدستورية
وكان العالم فوجيء في 4 دبسمبر بأن ساحل العاج أصبحت دولة برئيسين ، حيث أعلن التليفزيون الحكومي الرسمي أن الرئيس لوران جباجبو أدى اليمين الدستورية لفترة رئاسية جديدة في وقت أعلن فيه زعيم المعارضة الحسن وتارا نفسه رئيسا للبلاد بعد فوزه بالانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ومعروف أن الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 28 نوفمبر تنافس فيها الرئيس الحالى لوران جباجبو ومنافسه الحسن وتارا زعيم المعارضة وهي الانتخابات التى جاءت بعد حوالي عقد من الحرب الأهلية المدمرة ومحاولات الانقلاب التى أدت إلى تقسيم البلاد إلى جنوب يخضع لسيطرة الحكومة وتقطنه أغلبية مسيحية وشمال يسيطر عليه المتمردون وتقطنه أغلبية من المسلمين.
وتفجرت الأزمة الجديدة عندما أعلنت لجنة الانتخابات فوز وتارا بنسبة 54 بالمائة مقابل 46 بالمائة من الأصوات لجباجبو ، إلا أن رئيس المجلس الدستوري بول ياو اندري سرعان ما خرج على الملأ في 3 ديسمبر ليؤكد أن جباجبو هو الفائز بعد أن أحرز 51 في المائة من الأصوات ، موضحا أن نتائج التصويت في سبع من المناطق الشمالية المؤيدة لوتارا ألغيت بسبب ما أسماها تجاوزات انتخابية خطيرة .
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، بل إن رئيس الوزراء جويلومي سورو أعلن استقالته من منصبه وتأييده لمرشح المعارضة الفائز الحسن وتارا ، هذا فيما تعهد الجنرال فيليب مانجو قائد القوات المسلحة بالولاء لجباجبو وذلك بعد ظهوره على التليفزيون الرسمي وهو يزور جباجبو مع ضباط كبار آخرين ، وترافق مع التطورات السابقة أعمال عنف وإطلاق نار في العاصمة أبيدجان أسفرت عن مقتل شخصين على الأقل.
وفيما عزا البعض ما يحدث بين جباجبو ووتارا بأنه يعكس جانبي الصراع الديني والثقافي والإداري بين شمال البلاد وجنوبها حيث ما زال المتمردون الذين خاضوا الحرب الأهلية ضد القوات الحكومية عام 2002 يتمتعون بنفوذ قوي في الشمال ، ذهب البعض الآخر إلى أن ديكتاتورية جباجبو هي سبب الأزمة ، فالانتخابات التي أجريت في 28 نوفمبر 2010 كان يفترض أن تجرى في اواخر 2005 عندما انتهت ولاية جباجبو الذي تولي الحكم منذ عام 2000 إلا أنه نجح بتأجيلها أكثر من ست مرات لكي يبقى في السلطة طويلا بصرف النظر عن شرعية حكمه .
وبصفة عامة ، فإنه بدلا من أن تحسم الانتخابات السباق لصالح أحد المرشحين أفضت النتائج إلى وضع خطير ضاعف من الأزمة السياسية والعسكرية التي تشهدها البلاد منذ عام 2002 عندما اندلع التمرد الشمالي ضد حكم جباجبو والذي أدى إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية للفصل بين الأطراف المتنازعة .
ويبدو أن الأسوأ لم يقع بعد حيث حذر حلفاء وتارا من احتمال أن تعود الحرب الأهلية إلى الاشتعال من جديد في حال ألغى المجلس الدستوري نتيجة الانتخابات الرئاسية وقال أحد مساعدي زعيم المعارضة في هذا الصدد : "غذا فعلها ياو اندري (رئيس المجلس الدستوري) فسيكون مسئولا عن الحرب القادمة في ساحل العاج".
ومن جانبهم ، رفض قادة العالم أيضا وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إعلان فوز جباجبو وأكدوا أن وتارا هو الفائز الشرعي.
وكان الامين العام للامم المتحدة بان كي مون أعلن في 3 ديسمبر دعمه للحسن وتارا كفائز في انتخابات الرئاسة داعيا الرئيس المنتهية ولايته لوران جباجبو إلى أن يقوم بدوره من أجل خدمة مصلحة البلاد ويتعاون في انتقال السلطة بشكل سلس .
وفي السياق ذاته ، أكد مبعوث الأمم المتحدة إلى ساحل العاج تشوي يونج جن فوز وتارا في الانتخابات الرئاسية ، رافضا إعلان جباجبو فوزه.
وقال المبعوث :" إنه حتى مع الأخذ في الاعتبار المخالفات المفترضة فإن نتيجة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 28 نوفمبر لا تتغير حيث أن المرشح وتارا هو الفائز في الانتخابات الرئاسية".
وأضاف "إعلان النتائج النهائية الذي يقول إن لوران جباجبو هو الفائز في الجولة الثانية لا يمكن تفسيره إلا بأنه قرار ليس له أساس واقعي".
وفي السياق ذاته ، حثت فرنسا الرئيس جباجبو على تقبل الخسارة في الانتخابات قائلة :" إن عليه وعلى الجيش احترام إرادة الشعب وتجنب العنف".
كما هنأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما زعيم المعارضة الحسن وتارا بفوزه في الانتخابات الرئاسية في ساحل العاج وحث الرئيس لوران جباجبو على احترام نتيجة الانتخابات.
وأيا كانت تطورات أزمة ساحل العاج ، فإن الحقيقة التي لاجدال فيها هي أن الاستعمار كان ولازال سبب كل المشاكل التي تعاني منها القارة السمراء .
عقود من اضطهاد المسلمين
فمعروف أن الإسلام وصل ساحل العاج عن طريق الشمال عبر التجار المسلمين الذين قدموا من غرب إفريقيا وسرعان ما نشطوا في نشر الدعوة الإسلامية في جنوب ساحل العاج .
وبعد ذلك ، بدأ الاستعمار يفرض سيطرته على المنطقة خلال النصف الأول من القرن الماضي وفرضت فرنسا سيطرتها على ساحل العاج ، وبالنظر إلى أن الزحف الاستعماري بدأ من الجنوب فقد انتشرت فيه البعثات التنصيرية التي ركزت على التعليم المهني لكي تجذب أبناء البلاد إليها ، ورغم انتشار المساجد في مدن وقرى الشمال إلا أن التعليم الإسلامي يواجه عقبات من قبل السلطة الحاكمة .
بل واللافت للانتباه أيضا أن هوفييه بوانييه وهو أول رئيس لساحل العاج "كوت ديفوار" بعد استقلالها عن فرنسا في الستينات قام بمساعدة قوات فرنسية كانت موجودة حتى بعد الاستقلال بتقسيم شعبه إلى قسمين رئيسيين : القسم الأول في الشمال "المسلمون" وهؤلاء هم الفلاحون ومهمتهم زراعة الكاكاو وهو المحصول الأساسي الذي جعلها واحدة من أغنى الدول المستقلة حديثاً في غرب إفريقيا وتنتهي كما تبدأ علاقتهم بالسلطة عند نزولهم إلى عواصم المقاطعات التي يعيشون فيها أو إلى أبيدجان العاصمة الكبرى لكوت ديفوار يحملون أكياس الكاكاو على ظهورهم يبيعونها ويعودون لأراضيهم بعيدا عن المشاركة في السلطة.
أما القسم الثاني فقد تركز في جنوب البلاد وكانوا من الوثنيين الذين لا ينتسبون لأية ديانة أو يعبدون الأشجار أو يقدسون قبور أسلافهم مع وجود قليل من المسيحيين انتسب إليهم رئيس الدولة وقد اختار الرئيس لنظامه بعضاً من هؤلاء جعلهم وزراء ورؤساء مصارف وتجار كاكاو.
وأقام بوانييه نظامه هذا مستنداً إلى القوات الفرنسية التي ضمنت له الاستقرار الداخلي والخارجي وقامت بمهمة الفصل بين سكان الشمال والجنوب ولذا عاش بنظامه سالما ومستقراً ، إلا أنه بعد ذلك تحرك هؤلاء الذين حرموا من المشاركة السياسية طويلاً وتحرك معهم أيضا هؤلاء الذين حرموا من عائد الثروة الوطنية وظهر هذا الأمر بوضوح في عام 2000 ، ففي هذا العام تفجرت أحداث عنف صاحبت انتخابات الرئاسة التي أجبرت الجنرال روبرت جي "الحاكم العسكري السابق" على الفرار من كوت ديفوار .
وكانت المواجهات التي أعقبت تلك الانتخابات تحولت إلى ما يشبه الحرب الدينية بين أنصار كل من الزعيم الاشتراكي لوران جباجبو الممثل لجنوب وغرب البلاد ذي الأغلبية المسيحية والذي نصب نفسه رئيسا للبلاد مدعوما بالجيش ورئيس الوزراء الأسبق الحسن وتارا مرشح تجمع الجمهوريين الممثل لشمال البلاد ذي الأغلبية المسلمة.
واندلعت المواجهات حينها بسبب مطالبة وتارا بإعادة الانتخابات من جديد استناداً إلى أنها أجريت في إطار حكم عسكري وإثر ذلك دارت مواجهات عنيفة في شوارع العاصمة أبيدجان بين أنصار كل من لوران جباجبو والحسن وتارا أسفرت عن إحراق بعض المساجد والكنائس كما قتل في تلك المواجهات مئات الأشخاص وجرح الآلاف معظمهم من المسلمين لدرجة أنه تم الكشف عن مقبرة جماعية تضم أكثر من 60 من المسلمين قيل إن قوات الشرطة العسكرية هي المسئولة عن قتلهم .
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فالمسلمين في كوت ديفوار ينقسمون إلى عدد من التجمعات العرقية أبرزها "ديولا" بالإضافة إلى المسلمين القادمين من بوركينا فاسو ومالي وغانا للعمل في مزارع الكاكاو وهددت حكومة الرئيس جباجبو أكثر من مرة بـ "تطهير البلاد من الأحياء المهترئة" في إشارة إلى مناطق المسلمين القادمين من بوركينا فاسو والبالغ عددهم ثلاثة مليون شخص ، وهو الأمر الذي ضاعف من حدة غضب مسلمي ساحل العاج والدول المجاورة وهي بوركينا فاسو وغانا ومالي ضد نظام جباجبو.